من خلال دراسته الأكاديمة للعلاقة بين الصورة والموسيقى في الفن العربي الإسلامي يتجاوز الفنان التشكيلي أسعد عرابي، المقيم في باريس صفته فناناً تشكيلياً فقط، بل يتعداها الى كونه ناقداً فنياً وقارئاً انطباعياً ومؤرخاً وباحثاً لكل أنواع الفنون التي مرت بها المنطقة.
عرابي الذي انتهى أخيراً من افتتاح معرضه الذي حمل عنوان «حنين» في صالة «أيام» في دبي، يحكي فيه أم كلثوم التاريخ والشكل والصوفية التي أثرت في طبيعية يومياتها. وقال لـ«الإمارات اليوم»: «نحن نعيش فترة تغيير المفاهيم، بل مواجهة تلك المفاهيم بحقيقتها»، محاولاً ان يجس «نوستالجيا» المخصصة للفنانة أم كلثوم وفرقتها وزمنها الجميل.
موضوع معرضه الأخير يدعو إلى العودة إلى الزمن الجميل. وأراد عرابي المولود في دمشق أن يدخل إلى البنية التاريخية لسيدة الغناء العربي التي شكلت علامة فارقة في تاريخ العرب. عرابي الذي اصدر كتاباً عام 2009 حمل عنوان «صدمة الحداثة في اللوحة العربية» هو ضد علاقة «أم كلثوم» بالموسيقار محمد عبدالوهاب فنياً «لأنها ببساطة خلقت بأمر جمهوري»، في إشارة الى أن الراحل جمال عبدالناصر الذي صادفت ذكرى وفاته أول من أمس، اعطى أمراً بالشراكة الفنية بين أم كلثوم وعبدالوهاب «لذلك غاب الاحساس المشترك بينهما على المسرح، على عكس ذلك الاحساس الذي كان يولده السنباطي والقصبجي معها».
وأوضح عرابي أن نقده للعلاقة بين عبدالوهاب وأم كلثوم يأتي من «ايمانه بقيمة الصورة ضمن الخبرة الانسانية»، وأضاف «في الرغبة نفسها بين انشغالي بالرسم الذي يساويه انشغالي بالموسيقى، إلا أنني منشغل ايضاً بالصوفية التي انتجت مثل أم كلثوم التي لم يفهما عبدالوهاب فغابت الكيمياء بينهما، وأنه يمتد من تأويلات الحلاج وابن عربي وغيرهما إلى تجليات هذا الوجد الصوفي في الموسيقى والمشهد البصري في العصر الحديث».
انتقال ذهني
الحديث مع عرابي قد ينقلك من مكان إلى آخر بسرعة الضوء دون ان تفقد الفكرة الاولى او المكان الأول لقدرته على العودة سريعاً الى نقطة البداية، فهو يتعامل مع كل الأشياء كما يتعامل مع لوحاته، لذا دخل عرابي للحديث قليلاً عن كتابه الذي اصدره عام 2009 وحمل عنوان (صدمة الحداثة في المدن العربية)، حيث عرفه بالمقدمة على الشكل التالي «الحداثة في اللوحة العربية، متخلفة نصف قرن تشكيلي عن ركب النموذج الغربي، إذ إن انطباعية النصف الأول من القرن الـ 20 في المنطقة العربية أتت أصداءً لانطباعية النصف الثاني من القرن 19 في أوروبا، في حين أن تيارات «ما بعد الحداثة التي بدأت في السبعينات من القرن الماضي لم تصل بعد، والأمر ذاته بما يتعلق بالدادائية والسوريالية والتكعيبية».
وقال عرابي «نحن نعاني انفصاما حقيقيا وأزمة حداثة عميقة الجذور مع صعود الأصولية الفنية». موضحاً «سببه تواضع الاتصال مع المحترفات العالمية، وضعف ظاهرة الجماعات الفنية التي أعتبرها المحرك الأساسي في تقدم الفن الغربي». ويسيق عرابي أمثلة على هذه الأزمة في انتشار ظاهرة العروض والكتب النرجسية التي جعلت من اللوحة العربية «حداثة عزلوية»، بعيداً عن النقد المحلي. فهناك على حد تعبيره كذبة كبيرة «اسمها الفن العربي المعاصر، فحتى تكون معاصراً يجب أن تكون ساعتك الحائطية متطابقة مع الزمن الراهن، وليست متأخرة إلى الوراء على الأقل 50 عاماً»، ويقدم عرابي في كتابه الذي ترجم إلى اللغتين العربية والفرنسية محاولة تحليلية في إعادة كتابة تاريخ الفن العربي فهو يرى أن المجتمعات العربية فقدت الكثير من جسدها الفني، من خلال عمليات النهب الحضاري من المحتلين عبر العصور، ويدعو إلى تعويض غياب التاريخ والتوثيق من جسد الفن العربي المعاصر من خلال التحالف مع كل شيء والبدء من الصفر، بإنشاء مركز بحوث وتوثيق لكل التيارات الفنية عبر العصور التي يمكن الوصول إليها، على ألا يكون عرضاً نرجسياً للأسماء إرضاء لمجموعات النجوم هنا وهناك.
مدن تسكنني
مع كل هذا النقد الذي يوحي بعلاقة متوترة بين عرابي والوطن العربي، إلا انه يؤكد أن نجاحه في مسيرته الفنية «بسبب المدن العربية التي تسكنه ولا يسكنها في الوقت الحالي، من الصعب ان انسى طفولتي وجه أبي الصيداوي وأمي الدمشقية، والعلاقة بين لبنان ودمشق التي لم تسطتع منع علاقات الحب بين اثنين احدهما ربما يكون من الجبل والآخر من البحر».
وأضاف «دمشق وصيدا حبي فهما جعلني ابحث عن ذاتي التي ارتميت بها ومعها في شوارع باريس التي منحتني جنسيتها وقربتني من وجداني أكثر وانسانيتي، لكنني رغم كل شيء مازلت قوميا عربيا، ذهبت إلى فرنسا وأنا ناضج ومولع بجمال عبدالناصر أقمت نهائياً في باريس مع الحرب اللبنانية في عام .1976 الحروب دائما تنتج عنها قرارات ليست سياسية فحسب، بل مصيرية».
الصوفية
عرابي الذي اراد من خلال هذا الحوار ان يعلن انسياقه التام للثورة العربية التي يقودها الشباب نحو التغيير، وانسياقه الكامل للثورة السورية خصوصاً التي يدعي نظامها أن ثمة مؤامرة تحاك ضد سورية و«الحقيقة انه يوجد مؤامرة لكنها ليست خارجية، بل داخلية من النظام نفسه نحو تشويه المعرفة الحقيقية، في باريس حيث الأشياء كلها مفتوحة، وما عليك الا ان تبحث عن الحقيقة لتعرف الأجوبة، ربما عن اسئلة عاشت كيانك فترات طويلة ولم تجرؤ ان تتفوه بها، عرفت في هذه المدينة ان الصوفية ظلمت فنياً لارتباطها بالأصوليين، وعرفت في باريس اننا كمثقفين تعرضنا من الانظمة المستبدة إلى حرب على وعينا، كي نبني حواجز بيننا وبين الجمال».
أم كلثوم
عن معرضه «حنين» قال عرابي «أردت ان احكي الحقيقة من خلال علاقة أم كلثوم بالبعد العرفاني، والذوقي، والسماعي، والوجداني المرتبط اساسا بتربيتها الدينية، لا يمكن تجاوز بيئة أم كلثوم الدينية ابتداء من اسمها، ووالدها الذي كان يعمل اماماً في مسجد ومؤذناً، ومرتلاً للقرآن الكريم». وهذا الأب على حد تعبير عرابي «هو السبب الرئيس في نقل حساسيته العرفانية إلى ابنته التي لمس موهبتها حتى انه اصبح يلبسها مثل ابنائه الذكور كي تنشد وتشدو الموشحات الصوفية أمام الملا، وهذا أكبر دليل على أن الصوفية لم تكن حكراً على المتشددين كما يشاع عنها، بالعكس هي وسيلة للتقرب إلى الحس الداخلي الجميل وإظهاره للملا»، مشيراً إلى تحالف السنباطي مع أم كلثوم عند برزخ الاغنية الصوفية «فهي التي وضع لها السنباطي ضوابط قريبة من ايقاعات ومقامات الانشاد الصوفي، فاستخدم (الكورال) إلى أن أصبح وضوح الايقاع أقرب إلى أجواء حلقات الذكر والتواشيح الدينية مستخدماً مقام البياتي القريب من التجويد القرآني». لعل ابرز الأمثلة على الحالة التي يريد تفسيرها عرابي اغنية «القلب يعشق كل جميل»، التي كتبها بيرم التونسي، وأغنية «ولد الهدى» لمحمد إقبال، ثم اغنيات رابعة العدوية و«أقبل الليل» لأحمد رامي قبل ان يترجم من الفارسية رباعيات الخيام و«الأطلال» فأم كلثوم تبدو حسب عرابي «كائنا ليليا ضمن زمانها المطلق ومحافلها التي تستمر أمسياتها ما بين ساعة وثلاث ساعات حتى تأتي تباشير خيوط الصباح وهذه هي الصوفية».
مشيراً الى أنه «ليس مصادفة أن الراقص موريس بيجار حاول ان يصمم كوريغرافي متواترا بين أم كلثوم المتصوفة ومولوية مولانا، فلا يمكن بلوغ سر بناء الانشاد الصوفي في ثنائية كلثوم-السنباطي، الا بمراجعة حكمة جلال الدين الرومي نبراسا تلتحم فيه الكلمة باللحن بموسيقى الجنة التي وصفت في الكثير من الكتب السماوية بأن فيها أجراسا».
--------------------------
سيرة ذاتية
ولد أسعد عرابي في دمشق عام ،1941 وعرضت أعماله في عدد كبير من المعارض العربية والدولية. تخرج في كلية الفنون الجميلة في دمشق ،1987 يحمل الدكتوراه في علم الجمال من جامعة السوربون، ويقيم في فرنسا منذ عام 1975 وله مجموعة كبيرة من الكتابات الفنية الى اللغتين العربية والفرنسية.
ذهب إلى باريس لاستكمال دراساته العليا وحصل على درجة الدكتوراه وكانت رسالة مجزأة إلى ثلاث شهادات عن علاقة التصوير والموسيقى بالفن الإسلامي. ودرس الموسيقى هناك لمدة سنة في شكل مكثف. ولم تكن هذه أول علاقة له بالموسيقى. فقد كان في صغره مهتماً أيضاً بها ودرسها في المعهد العالي للموسيقى في دمشق. ودائماً يقول «إذا لم أكن مصوراً لكنت موسيقياً».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق